مقالات مقال رأي بقلم: سايمون بينيت

عصر “شبه الأتمتة” يشكل مستقبل الصناعة بدعم من التقنيات الرقمية المتقدمة

سايمون بينيت مدير الابتكار والحاضنات لدى أڤيڤا: تسهم مجموعة متنوعة من التقنيات الرقمية في تحويل المخرجات الصناعيةودمجها سيغير ملامح القطاع

تشهد الصناعة العالمية تحولًا غير مسبوق مع صعود ما يعرف بـ”عصر شبه الأتمتة”، وهي مرحلة انتقالية تمهد الطريق نحو الثورة الصناعية الخامسة.

حيث يتعاون الإنسان والآلة في بيئات عمل ذكية، مدعومة بأحدث ما توصلت إليه التكنولوجيا من أدوات تحليل وتنفيذ.

هذا المفهوم الجديد الذي يتنامى في الأفق بحسب سايمون بينيت، مدير الابتكار والحاضنات في شركة أڤيڤا (AVEVA)، يستند إلى فكرة أن الجمع بين الإبداع البشري والرؤى المستخلصة من البيانات الصناعية الضخمة يمكن أن يعيد تشكيل العمليات الصناعية نحو مزيد من الكفاءة والاستدامة والمرونة.

في ظل استمرار التحديات المرتبطة بسلاسل التوريد، وتقلبات الطاقة، والتغير في سلوك المستهلكين، تبدو شبه الأتمتة كحل استراتيجي قادر على تحسين بيئات العمل، وخفض التكاليف التشغيلية، وتقديم نماذج جديدة أكثر استدامة. ويرتكز هذا التوجه على مجموعة من التقنيات الرقمية المتقدمة المتاحة حاليًا، والتي تشمل إنترنت الأشياء الصناعي (IIoT)، والذكاء الاصطناعي، والتوائم الرقمية، والنماذج اللغوية الكبيرة المخصصة (LLMs)، والروبوتات الصناعية.

إنترنت الأشياء الصناعي يعتبر بمنزلة الجهاز العصبي للصناعة الحديثة.

حيث تتحول المعدات الصناعية إلى أدوات ذكية قادرة على جمع البيانات الحية وإرسالها إلى نظم المراقبة والتحكم مثل HMI وSCADA أو إلى الحوسبة السحابية.

وعند تجميع تلك البيانات في مصدر موثوق، يمكن استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي لتحليلها والتنبؤ بالأعطال قبل وقوعها.

كما حدث في شركة Duke Energy، التي استخدمت بيانات من 30 ألف مستشعر لإنشاء 10 آلاف نموذج تنبؤي، ونجحت في توفير 45 مليون دولار خلال ثلاث سنوات من خلال التنبؤ بـ385 مشكلة تشغيلية.

أما التوائم الرقمية، التي تعد نسخا افتراضية من الكيانات أو العمليات المادية، فقد أصبحت أداة حيوية لمحاكاة وتحسين الأداء دون تكبد خسائر فعلية. أحدث تطور في هذا المجال هو “التوأم الذكي الواحد”، الذي يربط بين جميع مراحل سلسلة القيمة، من التصميم الهندسي وحتى العمليات التشغيلية، ما يتيح رؤية شاملة من البداية للنهاية.

إحدى أبرز الحالات العملية تأتي من شركة TotalEnergies التي استطاعت عبر هذه التقنية تتبع الانبعاثات الكربونية لحظيا، وتحقيق وفر مالي بلغ 1.5 مليون يورو، وتقليص التوقفات التشغيلية بما يعادل 64 يومًا في عام واحد.

وفيما يتعلق بالنماذج اللغوية الكبيرة، فقد تطورت هذه الأنظمة لتستخدم خصيصا داخل المؤسسات الصناعية.

حيث يتم تدريبها على بيانات تشغيلية داخلية لتمكين المستخدمين من طرح أسئلة متقدمة بصيغة طبيعية والحصول على إجابات فورية ودقيقة، مثل تتبع أداء التوربينات أو مقارنة إنتاج محطات الطاقة، ما يسرع عملية اتخاذ القرار ويرفع من كفاءة الإدارة.

الروبوتات الصناعية هي الأخرى تلعب دور محوري في هذا التحول. من الطائرات بدون طيار إلى الأذرع الميكانيكية والروبوتات التعاونية، لا تهدف هذه التكنولوجيا إلى استبدال العنصر البشري، بل إلى دعمه عبر تولي المهام المتكررة أو الخطرة، مما يزيد من إنتاجية المصانع ويحسن جودة بيئة العمل.

مثال على ذلك شركة Livetech الإيطالية المتخصصة في تغليف المواد الغذائية، والتي نجحت في تحقيق وفورات بنسبة 40% وزيادة سرعة الإنتاج بمعدل 50% من خلال إدماج الحلول الروبوتية.

القوة الحقيقية لشبه الأتمتة لا تكمن فقط في قدرة كل تقنية على إحداث الفرق بمفردها.

بل في الطريقة التي تتكامل بها مع بعضها البعض.

فمثلًا، يمكن للروبوتات المتنقلة مثل تلك التي طورتها شركة Boston Dynamics، أن تتجول داخل المصانع مزودة بمجموعة من المستشعرات لجمع البيانات في الوقت الحقيقي، لتُغذي التوائم الرقمية بمعلومات دقيقة باستمرار.

في الوقت ذاته، تستخدم النماذج اللغوية الكبيرة تلك البيانات لتقديم توصيات دقيقة ومخصصة حول أفضل المسارات التشغيلية، والاستراتيجيات البيئية، مما يمنح المؤسسات الصناعية وصفة نجاح فريدة.

وحين يتم إطلاق تحذير مبكر عن خلل ما، يمكن للطائرات بدون طيار أن تكون خط الدفاع الأول، إذ تقوم بجمع معلومات حيوية حتى في المناطق الوعرة، ما يقلل التكاليف ويعزز سلامة العاملين.

كل ذلك يعزز من فكرة أن منظومة شبه الأتمتة عبارة عن نظام تغذية راجعة مترابط، يعمل فيه كل عنصر على تقوية الآخر، لخلق ما يشبه “المستشار الصناعي الذكي” الذي يفهم طبيعة العمل ويقدم إرشادات استراتيجية شاملة.

ورغم هذا التقدم المذهل، فإن العنصر البشري سيبقى في قلب الثورة الصناعية الخامسة.

كما كان في الثورة الصناعية الأولى. 71% من كبار التنفيذيين حول العالم باتوا يؤمنون بأن الذكاء الصناعي أصبح ضرورة للحفاظ على التنافسية، لكنهم يدركون في الوقت نفسه أن هذه الأنظمة تحتاج إلى توجيه بشري دائم، خاصة في ظل الاتجاه المتنامي نحو تطوير ذكاء اصطناعي مسؤول وأخلاقي، يلتزم بالشفافية والأمان ويخدم أهداف الإنسان لا يحل محله.

وهكذا يتضح أن “شبه الأتمتة” ليست مجرد فكرة مستقبلية، بل واقع جديد يتجسد بالفعل في المصانع الحديثة حول العالم. ومن خلال الدمج الذكي بين تقنيات المستقبل والإبداع البشري، يتم رسم ملامح جديدة لصناعة أكثر ذكاءً ومرونة وإنسانية.