د. محمد راشد يكتب : العمران في مواجهة المستقبل: هل تبني مصر مدنًا تُقيم الناس.. أم تُنقلهم؟

تعيش مصر واحدة من أكثر مراحلها ديناميكية من حيث النمو العمراني، فخريطة الجمهورية تُعاد تشكيلها من جديد، ليس فقط عبر التوسع الجغرافي، ولكن من خلال خلق أنماط سكنية ومدن متكاملة في مناطق لم تكن مأهولة من قبل. ما يحدث ليس مجرد بناء، بل إعادة رسم للعلاقة بين الأرض والإنسان والدولة.
ومع ذلك، ورغم حجم الاستثمار والتوسع، يبقى السؤال الأساسي حاضرًا بقوة: هل نحن بصدد بناء مدن تُقيم الناس بداخلها، وتُعيد تشكيل أنماط حياتهم واقتصادهم واستقرارهم؟ أم أن ما يحدث هو فقط نقل سكاني من منطقة إلى أخرى دون ضمانات حقيقية للاستقرار المجتمعي والمعيشي؟
في جوهر هذا السؤال يكمن الفرق الجوهري بين “التوسع العمراني” و”التنمية العمرانية”. فالأول قد يحدث بأدوات هندسية ومالية، أما الثاني فلا يكتمل دون رؤية مجتمعية شاملة تضع الإنسان في قلب التخطيط، وتربط بين ما يُبنى على الأرض وما يُنتج من فرص حياة. والتحدي الحقيقي أمام الدولة المصرية الآن، ليس فقط تنفيذ المدن الجديدة، ولكن التأكد من أنها قادرة على خلق حياة كاملة لسكانها، بمعناها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي.
لقد اختارت الدولة، عن وعي استراتيجي، أن تتجه نحو العمق الصحراوي، وتكسر المركزية الخانقة للوادي والدلتا. وهو توجه منطقي جدًا في ظل الأزمات السكانية والبيئية والمناخية التي تُهدد مناطق الحزام الأخضر، ومع الانفجار السكاني والتغيرات الاقتصادية العالمية. لكنّ هذا التوجه، رغم وجاهته، يظل رهينة لنجاح عملية “التوطين” وليس مجرد النقل. فالمواطن لا ينتقل إلى مدينة لمجرد أن بها وحدات سكنية جديدة أو طرق ممهدة، بل حين يجد فيها معنى للحياة: فرصة عمل، مدرسة جيدة، رعاية صحية محترمة، محيط إنساني آمن، وإحساس بالانتماء.
وهنا يظهر الفارق بين مدن استطاعت تحقيق معدل استقرار ملموس، وأخرى لم تبدأ بعد في خلق واقع معيشي متماسك. فالعاصمة الإدارية الجديدة، مثلًا، باتت تضم وزارات ومقار حكومية ومؤسسات تعليمية وطبية تُغذي منطق الحياة اليومية، بينما ما زالت بعض المدن الأخرى تبحث عن وظيفة اقتصادية واضحة تُبرر وجودها وتستقطب ساكنيها. ولذلك، فإن نجاح المدن الجديدة لن يُقاس بعدد الوحدات المُباعة، بل بقدرتها على جذب الإنسان وتمكينه من الحياة والإنتاج والاستقرار فيها.
الحديث عن “الاقتصاد المكاني” أصبح جوهريًا في هذه المرحلة. المدينة لم تعد كيانًا سكنيًا فقط، بل يجب أن تكون مركزًا إنتاجيًا وخدميًا وثقافيًا. وبدون ربط هذه المدن بمنظومات اقتصادية حقيقية — سواء صناعية أو تكنولوجية أو خدمية — ستظل الفجوة قائمة بين العمران والواقع. علينا أن نخلق وظائف، لا وحدات فقط. نُقيم أنشطة اقتصادية، لا تجمعات إسكانية. نُعيد تعريف المدينة ليس فقط كمكان للإقامة، بل كمجال للانخراط في دورة الحياة والإنتاج والانتماء.
الرؤية التي أتصورها لنجاح ملف المدن الجديدة في مصر، تبدأ من فهم أن بناء المدينة ليس هو نهاية المهمة، بل بدايتها. نحن نحتاج الآن إلى التركيز على استدامة هذه المدن، على قدرتها على توليد فرص، على خلق مناخ إنساني ومعيشي متكامل، لا يُشعِر المواطن بأنه انتقل فقط من مكان مزدحم إلى مكان جديد، بل بأنه بدأ حياة جديدة تستحق أن تُعاش. المطلوب هو أن نربط بين الجغرافيا والاستراتيجية، بين الخرائط والمجتمع، بين الإسكان والمعنى.
ولا شك أن ما تحقق حتى الآن من إنجازات عمرانية وبنية تحتية يمثل قاعدة قوية للانطلاق نحو هذا التحول المطلوب. لكن القيمة الحقيقية لأي مشروع عمراني لا تُقاس بما يُشيّد على الأرض فقط، بل بما يترسخ في الوعي الاجتماعي من شعور بالاستقرار والمشاركة في مستقبل البلد. ولهذا، فإن أهم ما يمكن أن نفعله الآن هو أن نعيد النظر في آليات تشغيل المدن، أن نُعطي أولوية للوظيفة الاجتماعية والاقتصادية، وأن نُشرك القطاع الخاص والمجتمع المدني والجامعات في صياغة شخصية هذه المدن الجديدة.
العمران ليس جدرانًا فقط… بل هو مشروع دولة وهوية.
وإذا استطعنا أن نُقيم مدنًا تُعيد تعريف علاقة الإنسان بالمكان، فسنكون قد عبرنا من مرحلة البناء إلى مرحلة صناعة المستقبل الحقيقي لمصر