مقالات مقال رأي بقلم: د. أحمد أبو علي

د. أحمد أبو علي يكتب: حين تشتري المدينة ساكنيها: كيف تحقق الدول التوازن بين الفخامة والعدالة الاجتماعية في التخطيط العمراني؟

في قلب أكثر مدن العالم تقدمًا، مثل نيويورك وباريس وبرلين، لم تترك الدولة ملف الإسكان للمطورين وحدهم.
فهناك وعي عميق بأن المدينة ليست مجرد منشآت، بل مجتمع حي ومعقد، يتشكل من طبقات مختلفة من الناس، كل منهم يؤدي دورًا ضروريًا في دورة الحياة اليومية. ولذلك، ظهرت سياسات “الدمج الاجتماعي داخل العمران”، مثل فرض نسب إسكان لمحدودي ومتوسطي الدخل داخل الأحياء الراقية، لضمان تنوّع المجتمع ومنع تكوّن “أحياء للأغنياء فقط”.

في نيويورك، مثلًا، يُمنح المطور العقاري الحق في زيادة عدد أدوار المبنى أو الحصول على تسهيلات ضريبية، مقابل تخصيص 20% من وحداته للإسكان منخفض الدخل.
وفي مدن أوروبية أخرى، تُعتبر العدالة داخل التخطيط العمراني أحد معايير الجودة، تمامًا مثل جودة التصميم والبنية التحتية.

لكن… هل هذا النموذج قابل للتطبيق في مصر؟
وهل نحتاج فعلًا لأن نفرض على المطورين في “الساحل الشمالي” أو “العاصمة الإدارية” تخصيص وحدات لمحدودي الدخل؟
أم أن الدولة المصرية اختارت مسارًا آخر لتحقيق العدالة، لا يعتمد على الدمج المكاني، بل على الدمج الجغرافي والتخطيط الشامل؟

في الحقيقة، التجربة المصرية في التنمية العمرانية اختارت مسارًا أكثر شمولًا واتساعًا.
الدولة لم تلزم المطورين بنسب إسكان اجتماعي داخل مشروعاتهم، لكنها في المقابل، تقوم بدور المُخطط والمنظم والموازن بين ما يُبنى للطبقة الأعلى، وما يُخصص للشرائح المتوسطة ومحدودي الدخل، من خلال طروحات متعددة، مدعومة جزئيًا أو ميسرة، داخل المدن الجديدة نفسها أو بالقرب منها.

ولعل أبرز ما يميز النموذج المصري هو أنه لا ينحاز إلى الدمج القسري داخل المشروع الواحد، بل يعتمد على التكامل المكاني بين الأحياء، بحيث تُوجد مناطق إسكان فاخر، وأخرى متوسط، وثالثة اجتماعي، في نفس المدينة أو نطاقها، دون أن يُشعِر ذلك أحدًا بالعزل أو بالتهميش.

في العاصمة الإدارية الجديدة، تتجاور مشروعات الفيلات والكمبوندات مع مشروعات “سكن مصر” و”دار مصر” و”جنه”، في مسافات مدروسة تخطيطًا، وفي مدينة العلمين، نرى أبراجًا شاهقة تطل على البحر، وفي المقابل، وحدات إسكان اجتماعي تُقام في مناطق غير بعيدة عن مناطق الخدمات.

أما في مدينة بدر، أو أكتوبر الجديدة، أو حدائق العاصمة، فقد نجحت الدولة في تقديم نموذج عمراني متكامل يخدم فئات الشباب والمقبلين على الزواج والطبقة الوسطى، من خلال وحدات مناسبة اقتصاديًا، وخدمات تعليمية وطبية وتجارية مرافقة، تجعل المكان قابلًا للحياة الحقيقية لا للسكن فقط.

البديل الذي تقدمه الدولة إذًا هو ليس فقط توفير الوحدة السكنية بأسعار مناسبة، بل توفير المدينة كمنظومة.
الطرق، المرافق، النقل الجماعي، المدارس، الأسواق، والأهم: ربط هذه المدن الجديدة بمراكز العمل في القاهرة أو غيرها عبر المحاور الذكية.

لكن رغم ذلك، لا تزال هناك تحديات قائمة.
ففي بعض الحالات، تبدو المدن الجديدة — خصوصًا في مراحلها الأولى — غير جاذبة بما يكفي، إما لضعف النشاط الاقتصادي فيها، أو لتأخر الخدمات. وهنا تظهر أهمية صناعة الروافد الاقتصادية للمدن، وخلق دوافع للانتقال، تتجاوز السكن إلى العمل والتعليم والاستقرار الأسري.

نقطة أخرى مهمة تتعلق بالساحل الشمالي.
فهذا الامتداد العمراني السياحي الفاخر، يكاد يكون معزولًا عن التوزيع السكاني الطبيعي. معظم الوحدات تُستخدم موسميًا، وتُباع بأسعار تفوق قدرة 95% من السكان. والسؤال هنا لا يجب أن يكون فقط: “لماذا لا نُخصص فيه وحدات لمحدودي الدخل؟” بل: هل تمثل هذه المنطقة نموذجًا قابلًا للدمج السكاني أصلًا؟ أم أن لها وظيفة مختلفة، ويجب تعويض ذلك بتقوية المدن الدائمة حولها؟

ربما يكون من الأنسب أن تنمو مدن مثل “العلمين”، و”الضبعة”، و”سيدي عبدالرحمن” كمدن حقيقية متصلة بالساحل، تُوفر إسكانًا للعاملين في الخدمات، والمدرسين، والأطباء، وكل من يصنعون الحياة اليومية، بدلًا من السعي لفرض الدمج داخل وحدات مصيفية فاخرة تُستخدم شهرين في السنة.

إن ما تحتاجه مصر ليس مجرد استنساخ تجارب خارجية، بل صياغة نموذج خاص بها، يحقق المعادلة الدقيقة بين جذب الاستثمارات وتحقيق العدالة.
وقد أثبتت التجربة العمرانية المصرية الأخيرة — من العاصمة الإدارية، إلى المدن الذكية، إلى الإسكان الاجتماعي — أن الدولة قادرة على بناء عمران متعدد الشرائح، متكامل الوظائف، يُنصف مختلف الفئات دون أن يُعطل عجلة التطوير.

وفي النهاية، ليست العدالة العمرانية أن نسكن جميعًا في نفس العمارة، بل أن نحصل جميعًا على فرص متكافئة للحياة في مدينة تستوعب اختلافنا… وتحترمه

كاتب المقال د. أحمد أبو علي – الباحث والمحلل الاقتصادي المصري