مقالات مقال رأي بقلم: د. أحمد أبو علي

د. أحمد أبو علي يكتب: الوادي الجديد بين غياب المشروع السياسي وعبثية المشهد الانتخابي.. أزمة وعي أم أزمة نخب؟

في الوقت الذي تتحرك فيه الدولة المصرية بخطوات ثابتة نحو التنمية الشاملة وإعادة صياغة خريطة الاستثمار والبنية التحتية، لا تزال بعض المحافظات البعيدة عن المركز، وعلى رأسها محافظة الوادي الجديد، تعاني من حالة جمود سياسي تُضعف من حضورها في المشهد الوطني العام. فبينما تتسارع وتيرة البناء في كل المجالات، ما زال المشهد الانتخابي في الوادي الجديد يدور داخل حلقة مفرغة من الوجوه المكررة والبرامج الغائبة والأحزاب الصامتة، في مشهد يعكس أزمة وعي ونخب في آن واحد

تقترب انتخابات مجلس النواب في محافظة الوادي الجديد وسط حالة من الركود السياسي العميق، حيث يبدو المشهد العام وكأنه تكرار باهت لمواسم انتخابية فقدت مضمونها الحقيقي وتحولت إلى سباق شكلي بين وجوه مستهلكة وشعارات مكررة. ففي الوقت الذي تشهد فيه الدولة المصرية حراكًا تنمويًا غير مسبوق على مستوى البنية التحتية والمشروعات القومية، لا تزال بعض الدوائر الانتخابية في الوادي الجديد، وعلى رأسها مراكز الداخلة وبلاط والفرافرة، تعيش حالة من الانفصال التام بين الوعي السياسي والواقع التنموي، بين احتياجات المواطن الفعلية وبين الخطاب الانتخابي الذي لم يتطور منذ سنوات.

إن المتأمل للمشهد يكتشف أن ما يدور هناك ليس تنافسًا سياسيًا بقدر ما هو تكرار لذات المعادلة: مرشحون بلا مشروع، وناخبون بلا أمل، وأحزاب غائبة عن الوعي الجمعي. العملية الانتخابية في صورتها الحالية تفتقد للروح السياسية الحقيقية، فلا برامج واقعية، ولا نقاش عام، ولا حتى مساحة لتجديد النخب السياسية أو ضخ دماء جديدة قادرة على التعبير عن قضايا المجتمع الصحراوي المتفرد في طبيعته وتركيبته الاقتصادية والاجتماعية.

ولا يمكن فهم هشاشة المشهد السياسي في الوادي الجديد دون التوقف أمام الفراغ الحزبي الكبير الذي يسيطر على الميدان. فالأحزاب السياسية التي يُفترض أن تكون الوعاء الطبيعي لإنتاج القيادات وتشكيل الوعي، انسحبت بهدوء من المشهد، تاركةً وراءها مساحات فارغة ملأها الأفراد والعلاقات الشخصية والانتماءات القبلية. لم تعد هناك مكاتب حزبية فاعلة، ولا برامج تثقيفية، ولا كوادر مدرّبة قادرة على خوض المعترك الانتخابي بعقلية الدولة الحديثة.

تحوّل المشهد الانتخابي إلى حالة من العشوائية السياسية، حيث يتحرك المرشحون بمجهودات فردية، ويغيب العمل المؤسسي تمامًا. والمحصلة أن المواطن فقد ثقته في جدوى التصويت، لأن النتيجة أصبحت شبه محسومة لصالح من يمتلك أدوات النفوذ الاجتماعي لا من يمتلك أدوات الفكر والرؤية. وهذه الأزمة لا تمثل فقط مأزقًا انتخابيًا، بل تهديدًا مباشرًا لشرعية التمثيل النيابي ذاته، لأن التمثيل الذي لا ينبع من الوعي، لا يمكنه أن ينتج تشريعًا يعبر عن المواطن أو يدافع عن مصالحه.

المشهد في الوادي الجديد يختصر أزمة أعمق تعيشها السياسة المصرية في أطرافها الجغرافية البعيدة عن المركز، وهي أزمة النخب السياسية المحلية. فالوجوه القديمة تعود كل دورة انتخابية لتنافس نفسها، والكوادر الشابة يتم تهميشها لصالح أسماء تعوّدت على الحضور الموسمي، دون أن تقدم أي إضافة حقيقية أو رؤية جديدة. غياب النخب الواعية يعني غياب المضمون، ومع غياب المضمون تتحول الانتخابات إلى طقس اجتماعي لا ينتج تغييرًا، بل يعيد إنتاج نفس الواقع في صورة أكثر جمودًا.

ما يحدث في دوائر مثل الداخلة وبلاط والفرافرة لا يمكن وصفه إلا بأنه إعادة تدوير للمشهد ذاته. فمن المفترض أن تكون هذه المناطق نموذجًا للتجارب الانتخابية الواعية، نظرًا لتركيبتها السكانية الفريدة وتاريخها في العمل المجتمعي، لكن غياب التنظيم السياسي والوعي الجماعي جعلها رهينة علاقات شخصية ومجاملات اجتماعية لا تصنع سياسة ولا تبني مؤسسات.

الوعي السياسي في الوادي الجديد يعاني من تراجع واضح، ليس بسبب عزوف الناس فقط، بل نتيجة غياب من يصنع هذا الوعي ويوجهه. فلا برامج تثقيف سياسي في الجامعات أو المدارس أو مراكز الشباب، ولا مبادرات مجتمعية جادة تربط بين مفهوم المواطنة والتمثيل البرلماني. المواطن البسيط لا يرى في الانتخابات فرصة لتغيير واقعه، بل يراها مناسبة موسمية للزيارات والمجاملات. هذه الفجوة بين المواطن والعملية السياسية هي جوهر الأزمة، لأنها تعكس غياب الرسالة السياسية التي تجعل المشاركة فعل وعي ومسؤولية لا مجرد واجب اجتماعي.

إن بناء وعي سياسي في محافظة الوادي الجديد لم يعد رفاهية، بل ضرورة وطنية، لأن التنمية التي تشهدها الدولة لن تكتمل ما لم يصاحبها وعي سياسي قادر على حمايتها واستدامتها.

وإصلاح هذا الواقع لا يمكن أن يتم عبر الوعود أو المبادرات الوقتية، بل من خلال خطة متكاملة لإعادة بناء الحياة السياسية في المحافظة تقوم على ثلاثة محاور رئيسية. أولًا، إحياء الدور الحزبي والمؤسسي من خلال إنشاء فروع نشطة للأحزاب داخل المحافظة وتدريب كوادر شابة قادرة على ممارسة السياسة كعلم وفن لا كولاء أو قرابة. ثانيًا، خلق مساحات حقيقية للحوار السياسي المجتمعي عبر الندوات والملتقيات المحلية التي تجمع بين المثقفين والشباب والقيادات التنفيذية لتشكيل وعي جماعي حول قضايا التنمية المحلية. وثالثًا، دعم الإعلام المحلي المستقل ليقوم بدوره في نقل الحقيقة وطرح النقاشات الجادة بعيدًا عن المجاملة أو الانحياز، وليكون صوت المواطن الحر الذي يعبر عن تطلعاته.

محافظة الوادي الجديد ليست هامشًا جغرافيًا كما يتصور البعض، بل هي عمق استراتيجي لمستقبل مصر التنموي، وامتداد طبيعي لمشروع الدولة في التنمية المتوازنة. لكن هذا العمق لن يتجسد فعليًا ما لم تتوافر إرادة سياسية محلية تعيد ترتيب المشهد الانتخابي على أسس الوعي والمسؤولية. لقد آن الأوان أن يدرك أبناء الوادي الجديد أن غياب المشروع السياسي هو أخطر من غياب الخدمات، وأن إعادة بناء الحياة السياسية ليست ترفًا، بل هي الضمان الوحيد لمستقبل تنموي مستدام يحمي الأرض والإنسان معًا.