د.أحمد أبو علي يكتب: غلاء السكن يعيد صياغة المجتمع: كيف تُعيد أزمة الإسكان تشكيل الخريطة الديموغرافية في مصر؟

تشهد مصر تحولات اقتصادية واجتماعية متسارعة، تتقاطع بشكل مباشر مع أوضاع الإسكان، في ظل ارتفاع غير مسبوق لتكاليف شراء الوحدات العقارية في أغلب المدن، وبخاصة تلك الجديدة التي يُفترض أن تكون وجهة الجيل الصاعد. هذا الغلاء المتصاعد لم يعد يمثل فقط أزمة في القطاع العقاري، بل أصبح أحد أبرز العوامل التي تُعيد تشكيل الخريطة الديموغرافية للمجتمع المصري، وتدفع باتجاه تغيّرات عميقة في أنماط تكوين الأسرة والاستقرار المجتمعي.
وتكشف البيانات الرسمية والتقارير العقارية أن أسعار الوحدات السكنية قد تضاعفت في عدد كبير من المناطق خلال السنوات الأخيرة، نتيجة مجموعة من العوامل المتشابكة، في مقدمتها ارتفاع تكلفة البناء، وتراجع القدرة الشرائية، وتدهور سعر صرف الجنيه، إلى جانب اعتماد غالبية الشركات العقارية على نماذج تسعير تستهدف الشرائح الأعلى دخلًا فقط، ما أخرج شريحة كبيرة من الشباب من معادلة التملك.
في المقابل، لم تشهد أدوات التمويل العقاري تطورًا حقيقيًا يوازي هذه الارتفاعات، حيث لا تزال أغلب مبادرات التمويل محدودة أو مشروطة، ولا تلائم الظروف الواقعية لشريحة واسعة من الباحثين عن سكن مناسب. ومع غياب برامج إسكان اجتماعي مرنة، أو مشروعات تنموية تستوعب الشباب بشكل فعلي، بات واضحًا أن السكن لم يعد حقًا مضمونًا، بل رفاهية يصعب تحقيقها.
هذه الأزمة لا تتوقف عند حدود العقار، بل تمتد لتطال البنية الاجتماعية للمجتمع. فقد بات عزوف الشباب عن الزواج وتكوين الأسرة ظاهرة لافتة، ترتبط في أحد أوجهها بغياب القدرة على امتلاك أو حتى استئجار وحدة سكنية ملائمة. وتبعًا لذلك، بدأت تظهر مؤشرات ديموغرافية مقلقة، من بينها ارتفاع سن الزواج، وتراجع معدل تكوين الأسر، وانخفاض معدلات الإنجاب، فضلًا عن بروز أنماط سكن بديلة تفتقر إلى الاستقرار، وتعكس هشاشة اجتماعية في التكوين الأسري الحديث.
وتشير القراءات المستقبلية إلى أن استمرار هذا الوضع قد يؤدي إلى فجوة ديموغرافية حادة، تضعف من قدرة الدولة على ضبط الإيقاع السكاني، وتؤثر سلبًا على توازن الطبقات الاجتماعية، وتُهدد بانكماش الطبقة المتوسطة، التي لطالما كانت صمام الأمان للاستقرار الاقتصادي والاجتماعي في مصر.
ويكمن الخطر الأكبر في أن هذه التحولات تحدث بشكل تدريجي وصامت، دون تدخلات كافية من السياسات العامة، ما قد يُفضي إلى بناء مجتمع مستقبلي يتسم بعدم التجانس، ويتكوّن من فئات إما تعيش في مناطق ذات تكلفة عالية مع التزامات مالية مرهقة، أو على الهامش في بيئات غير صحية تفتقر إلى الحد الأدنى من مقومات الحياة الآمنة.
إن الحل لا يكمن فقط في بناء المزيد من الوحدات، بل في إعادة النظر في فلسفة الإسكان ككل، باعتباره مكونًا أساسيًا من مكونات التنمية المستدامة، وركيزة للاستقرار الأسري والمجتمعي. ويتطلب الأمر تدخلًا ذكيًا يعيد توزيع الأولويات، ويضع المواطن في قلب سياسات الإسكان، عبر دعم برامج التمويل، وتحفيز القطاع الخاص على تطوير نماذج منخفضة التكلفة، ودمج بعدي العدالة الاجتماعية والنمو الديموغرافي في صميم التخطيط العمراني.
ولا يمكن الحديث عن إصلاح اقتصادي حقيقي دون التوقف أمام أزمة الإسكان باعتبارها واحدة من أكثر الأزمات تأثيرًا على مستقبل المجتمع المصري، ليس فقط من زاوية السكن، ولكن من زاوية إعادة تعريف شكل الأسرة، وتركيبة السكان، وتوجهات الاستقرار والاندماج