محمد عامر يكتب: من طوق النجاة إلى كرة الثلج.. كيف تهدد سياسة «طقيّة ده لده» استقرار السوق العقاري المصري؟

في قلب السوق العقاري المصري، تتنامى ظاهرة صارت حديث الخفاء بين العاملين في القطاع، لكنها تسير بخطوات واثقة نحو أن تتحول إلى أزمة معلنة تهز أركان واحد من أهم أعمدة الاقتصاد الوطني.
الظاهرة ببساطة تقوم على أن عددًا متزايدًا من شركات التطوير العقاري بات يلجأ لطرح مشروعات جديدة ليس بدافع التوسع المدروس أو تلبية الطلب، بل بهدف وحيد هو إنقاذ مشروعات قديمة متعثرة لم تكتمل لأسباب مالية أو إدارية أو نتيجة سوء تقدير عند التسعير أو التوقيت.
هذه السياسة التي يصفها المتابعون بـ”طقيّة ده لده” قد تبدو للبعض حيلة إنقاذ، لكنها في حقيقتها تخلق دائرة مفرغة من المخاطر قد تلتهم ثقة العملاء والمستثمرين وتضع السوق بأكمله في مهب الريح.
تبدأ القصة حين يجد المطور نفسه أمام مشروع قائم توقف العمل به نتيجة نفاد السيولة أو الارتفاع الكبير في تكاليف البناء أو ضعف القدرة على البيع في سوق متقلب، فيسعى سريعًا لإطلاق مشروع جديد لجذب أموال العملاء وضخها في المشروعات العالقة.
وهنا يتحول المشروع الجديد من فرصة استثمارية إلى طوق نجاة مؤقت، لكن الطوق سرعان ما يصبح عبئًا جديدًا إذا لم يتمكن المطور من تحقيق مبيعات كافية أو إذا ارتفعت التكاليف مجددًا، فتتكرر الدوامة بمشروع ثالث ورابع، إلى أن يجد المطور نفسه أمام سلسلة من الالتزامات المتراكمة التي يصعب الخروج منها دون خسائر فادحة.
هذه السياسة تترك أثرًا مدمرًا على عدة مستويات، فهي أولًا تهدد ثقة العملاء الذين باتوا يشككون في قدرة الشركات على تسليم مشروعاتها في المواعيد المحددة، وهو ما ينعكس مباشرة على قرارات الشراء والاستثمار.
كما أنها تخلق فائضًا من المشروعات نصف المكتملة، ما يؤدي إلى تشوهات في المعروض العقاري وضغوط هبوطية على الأسعار في بعض المناطق، في الوقت الذي ترتفع فيه أسعار مواد البناء وتكلفة التمويل.
الأخطر أن هذه الظاهرة قد تؤدي إلى نزاعات قضائية واسعة بين العملاء والمطورين، وهو ما يشكل عبئًا إضافيًا على المنظومة القانونية ويضر بسمعة السوق المصري أمام المستثمرين المحليين والأجانب.
سيناريوهات الأزمة وتشوهات السوق
إذا استمرت هذه الظاهرة بلا تدخل، يمكن أن نشهد خلال خمس سنوات عدة سيناريوهات قاتمة. أولها، تفكك دورة الإنتاج العقاري بحيث يصبح السوق مليئًا بالمشروعات المعلقة التي تستهلك الموارد دون أن تضيف قيمة حقيقية.
ثانيها، تآكل التصنيف الائتماني للمطورين المصريين أمام البنوك والمؤسسات التمويلية، مما يصعب عليهم الحصول على التمويل مستقبلاً ويجعلهم أكثر اعتمادًا على أموال العملاء كمصدر وحيد للسيولة.
ثالثها، هجرة المستثمرين الجادين إلى أسواق إقليمية أكثر استقرارًا، وهو ما يقلص فرص دخول رؤوس أموال أجنبية جديدة للسوق المصري.
ورابعها، تشوه الخريطة العمرانية نتيجة توقف بعض المشروعات في مراحل متقدمة، مما يخلق مناطق غير مكتملة البنية العمرانية والخدمية، ويؤثر سلبًا على جودة الحياة في المدن الجديدة.
رؤية للحل
التعامل مع هذه الظاهرة يتطلب إرادة قوية وإجراءات فورية. البداية تكون عبر وضع إطار تنظيمي صارم يمنع تداخل التدفقات النقدية بين المشروعات، مع اشتراط خطة تمويل واضحة قبل منح أي تراخيص جديدة.
كما يجب تعزيز الشفافية عبر إلزام المطورين بإصدار تقارير ربع سنوية عن نسب التنفيذ والتمويل، وإتاحة هذه البيانات للعملاء والجهات الرقابية.
ومن الضروري أيضًا فتح الباب أمام أدوات تمويل مؤسسية مثل الصناديق العقارية، وإشراك البنوك في مراجعة خطط التمويل والتأكد من جدواها قبل بدء التنفيذ.
الأهم أن تدرك الشركات أن الثقة التي تُفقد لا يمكن استعادتها بسهولة، وأن الاستثمار في استكمال المشروعات القائمة قبل التوسع هو الضمان الحقيقي لبقاء المطور ونجاحه على المدى الطويل.
إن الظاهرة التي تتشكل الآن في صمت قد تتحول غدًا إلى عاصفة تعصف بما تحقق من إنجازات في القطاع العقاري المصري خلال العقد الأخير، وإذا لم يتم التعامل معها بجدية وصرامة، فإن سياسة “طقيّة ده لده” لن تكون مجرد حيلة إنقاذ وقتية، بل الشرارة التي تشعل أكبر أزمة عقارية شهدتها مصر في تاريخها الحديث.