مقالات مقال رأي بقلم: محمد سكراوي

محمد سكراوي يكتب: لماذا تحتاج مصر إلى لامركزية رقمية؟

في عصر تقوده التكنولوجيا وتُعيد فيه الرقمنة تعريف كل شيء من الاقتصاد إلى الإدارة، لم تعد “اللامركزية” مجرد مفهوم إداري كلاسيكي، بل تحوّلت إلى ضرورة استراتيجية لضمان عدالة التنمية، وكفاءة الأداء، وجاذبية الاستثمار.

وفي قلب هذه المعادلة، تبرز “اللامركزية الرقمية” كأحد أكثر الأدوات تأثيرًا في إعادة رسم خريطة الاقتصاد المصري.

لم يعد مقبولًا أن تظل القاهرة ومحافظات قليلة تتركز فيها جميع الخدمات الرقمية، بينما تبقى المحافظات الأخرى رهينة البطء والورق والتعقيد.

وإذا كانت الدولة المصرية قد قطعت شوطًا معتبرًا في مجال التحول الرقمي على مستوى الحكومة المركزية، فإن الخطوة التالية – بل الأهم – هي نقل هذه الرقمنة من المركز إلى الأطراف، ومن العاصمة إلى المحافظات، عبر تطبيق حقيقي وشامل لمفهوم اللامركزية الرقمية.

اللامركزية الرقمية لا تعني مجرد توصيل الإنترنت أو تركيب أجهزة حاسب في الإدارات المحلية.

بل تعني بناء منظومات ذكية مستقلة داخل كل محافظة، قادرة على تقديم خدماتها الحكومية، وتيسير أنشطتها الاقتصادية، وتبادل بياناتها مع الحكومة المركزية بكفاءة.

هي ببساطة: تحويل كل محافظة إلى كيان إداري–اقتصادي رقمي مستقل جزئيًا، لكنه مندمج ضمن الدولة الحديثة.

اقتصاديًا، هذا التحول يحمل إمكانات هائلة، فحين تُصبح محافظة مثل أسيوط أو دمياط أو البحيرة قادرة على تقديم كل خدمات الاستثمار، والتراخيص، والسجل التجاري، والتمويل، والضرائب، والتعليم الإلكتروني، بنفس كفاءة القاهرة… فإن ذلك يعني إعادة توزيع طبيعية للثقل الاقتصادي، وفتح أسواق جديدة، وتقليل الضغط عن العاصمة.

كما أن اللامركزية الرقمية تُخفض التكاليف على المستثمرين، وتُسهّل الإجراءات، وتمنح المحافظات ميزة تنافسية، لا سيما في المجالات التي تمتلك فيها تخصصًا طبيعيًا: كصناعة الأثاث في دمياط، أو الزراعة والصناعات الغذائية في المنيا، أو السياحة في الأقصر.

ومن زاوية التنمية، فإن تطبيق اللامركزية الرقمية سيُعيد تعريف العلاقة بين المواطن والدولة.
سيتعامل المواطن في أي قرية أو مدينة مع الحكومة بنفس الكفاءة والسرعة، وسينال نفس فرص التعليم الإلكتروني، وخدمات الصحة الرقمية، وفرص التمويل، دون أن يُضطر للنزوح إلى العاصمة.
وهذا وحده يُقلل من الضغط السكاني، ويُعزز العدالة الجغرافية، ويزيد من الإنتاج المحلي لكل محافظة.

تجارب كثيرة حول العالم أثبتت أن مركزية الرقمنة تُعيد إنتاج نفس المشاكل القديمة: تركّز الموارد، ضعف الكفاءة، تباطؤ النمو في الأقاليم، واستنزاف المدن الكبرى.
أما اللامركزية الرقمية، فهي تحول التكنولوجيا من “رفاهية حكومية” إلى “منصة تنمية متكاملة”.

مصر تمتلك البنية الأساسية اللازمة للانطلاق في هذا الاتجاه:
من بنية تحتية رقمية متنامية، إلى بنوك رقمية، ومدفوعات إلكترونية، ومنصات خدمية كبرى مثل “مصر الرقمية”، لكن الآن حان الوقت أن تُدار هذه الإمكانات بمنطق التوزيع الذكي لا التكديس في المركز.

ومع تزايد الحاجة لجذب استثمارات خارج العاصمة، وتمكين القطاع الخاص في المحافظات، وتنمية المدن الجديدة والصعيد وسيناء، فإن اللامركزية الرقمية لم تعد خيارًا… بل ضرورة تنموية وأمنية واقتصادية.

توصيات لتعزيز اللامركزية الرقمية في مصر

1. إعداد خريطة رقمية تنموية لكل محافظة
يُستحسن تصميم خريطة وطنية تحدد أولويات الرقمنة وفقًا للأنشطة الاقتصادية والسكانية لكل محافظة، لضمان تخصيص الاستثمار الرقمي بطريقة هادفة ومنتجة.
2. استكمال البنية التحتية الرقمية في المناطق الطرفية
من الضروري توصيل الإنترنت فائق السرعة للمحافظات الحدودية والصعيد، وربطها بشبكات الألياف الضوئية، وإنشاء مراكز بيانات إقليمية.
3. تأسيس بوابات رقمية محلية داخل كل محافظة
يمكن لكل محافظة أن تُدير منصة خدماتها الخاصة المرتبطة بالمنصة القومية، تقدم من خلالها خدمات التراخيص، الضرائب، التوظيف، الاستثمار، والتعليم والصحة.
4. منح الإدارات المحلية صلاحيات رقمية مستقلة
لابد من تحديث التشريعات للسماح للمحافظات بإدارة منظومتها الرقمية، والتصرف في مواردها التكنولوجية، وتوظيف الكفاءات التقنية بشكل مباشر، ضمن إطار رقابي شامل.
5. تحفيز القطاع الخاص لبناء اقتصاد رقمي محلي بالمحافظات
عبر تقديم إعفاءات ضريبية، وحاضنات أعمال، ومناطق تكنولوجية حرة، خصوصًا في المحافظات التي تمتلك طاقات بشرية شابة وقابلة للتأهيل.
6. دمج ملف اللامركزية الرقمية ضمن رؤية مصر 2030
واعتبارها أحد مؤشرات كفاءة الأداء الحكومي وفعالية النمو الاقتصادي، مع تحديث دوري للتقدم المحقق، وتقييم مدى تأثير الرقمنة على تحسين جودة الحياة.

وختامًا إن بناء “مصر الرقمية” لا يكتمل إلا عندما تُصبح الرقمنة أداة عدالة، لا أداة تمركز.
وعندما يشعر المواطن في أقصى الحدود، أن خدماته، وفرصه، وتواصله مع الدولة… كلها متاحة له بنفس الكفاءة التي تُتاح بها في العاصمة، نكون قد نجحنا في تحقيق نقلة حقيقية، من دولة تُدار من المركز، إلى وطن ذكي يُدار بالتكنولوجيا، ومن كل نقطة على أرضه