محمد سكراوي يكتب : الذكاء الاصطناعي وجيل Z ثنائية تقلب موازين البزنس

في وقت تتحرك فيه الأسواق العالمية بأقصى سرعة، باتت الشركات أمام معادلة معقّدة لم تعرفها من قبل: كيف تواكب الانفجار غير المسبوق في أدوات الذكاء الاصطناعي، وفي الوقت نفسه تتكيّف مع عقلية وسلوك جيل جديد تمامًا، هو جيل Z؟ نحن أمام ثنائية غير تقليدية، لا يكفي فيها التطوير المرحلي أو التجديد السطحي، بل تتطلب من المؤسسات والشركات أن تعيد هيكلة فكرها بالكامل، ليس فقط على مستوى المنتج أو التسويق، ولكن على مستوى الرؤية والثقافة وهندسة اتخاذ القرار.
فالذكاء الاصطناعي لم يعد مجرّد أداة دعم تقني، بل أصبح بنية تشغيلية كاملة قادرة على إدارة جوانب واسعة من دورة العمل داخل أي مؤسسة. أدوات مثل ChatGPT وClaude وAutoGPT لم تعد حكرًا على عمالقة التكنولوجيا، بل أصبحت متاحة ومنخفضة التكلفة لأي شركة ترغب في رفع كفاءتها أو توسيع قدراتها، مهما كان حجمها. لكن المسألة لا تتوقف على التبني التقني، بل تمتد إلى التبني الاستراتيجي: هل تستطيع الشركات أن تُعيد التفكير في نموذجها التشغيلي بحيث يُصبح الذكاء الاصطناعي جزءًا أصيلًا فيه، لا مجرد “إضافة” هامشية؟
في المقابل، فإن جيل Z – الذي يمثل اليوم شريحة ضخمة من المستهلكين وموظفي المستقبل – يفرض على الشركات تحديًا من نوع آخر تمامًا. هو جيل وُلد في بيئة رقمية، وامتلك أدوات التعبير والمقارنة والتقييم منذ لحظة وعيه الأولى. لا يكفي أن تقدم له منتجًا جيدًا بسعر تنافسي؛ بل عليك أن توصل له قصة حقيقية، ورسالة واضحة، وتجربة متكاملة تبدأ من التصميم وتنتهي بخدمة ما بعد البيع. هو جيل يشتري الفكرة، لا فقط السلعة. يبحث عن الشفافية، لا عن الواجهة. ويقيّم الشركات ليس فقط بناءً على ما تبيعه، بل بناءً على مواقفها من القضايا البيئية والاجتماعية والمجتمعية. هذا الجيل لا يمنح ولاءً طويل الأمد، لكنه يمنح ثقة عميقة إن شعر أن الشركة تراه وتحترم وعيه.
وحين تجتمع هذه التحولات معًا – التحول التكنولوجي السريع من جهة، والتغير الجيلي الثقافي من جهة أخرى – يصبح أمام الشركات واقع جديد كليًا، واقع لا تصلح فيه أدوات الماضي، ولا حتى رؤى الماضي. الشركات التي تتبنّى الذكاء الاصطناعي لتقليل التكاليف فقط، دون أن تربطه بتحليل سلوك عملائها في الوقت الحقيقي، تخسر نصف المعادلة. وتلك التي تطلق حملات تسويقية “حديثة الشكل” دون أن تفهم عمق تفكير جيل Z، تخسر النصف الآخر. أما الشركات التي تجمع بين الاثنين: بين توظيف حقيقي للذكاء الاصطناعي، وفهم عميق للسلوك البشري الجديد، فهي التي ستعيد رسم المشهد في المستقبل القريب.
من الناحية العملية، نحن نشهد بالفعل تحولات جذرية لدى عدد من الشركات العالمية التي تدمج الذكاء الاصطناعي في جميع عملياتها، من تصميم المنتجات إلى إدارة تجربة العملاء. في الوقت ذاته، هناك شركات تعيد النظر في هيكلها الثقافي لتصبح أكثر انفتاحًا ومرونة وشفافية، وهي الصفات التي يطلبها جيل Z بقوة. في الحالتين، الإدراك هو العامل المشترك: الإدراك بأن السوق تغيّر، وأن المستهلك تغيّر، وأن أدوات السيطرة والنجاح تغيّرت.
لكن الواقع يقول إن كثيرًا من الشركات، خاصة في منطقتنا العربية، لا تزال تتعامل مع الذكاء الاصطناعي كتجربة تجميلية مؤقتة، أو مع جيل Z كفئة مزاجية يصعب إرضاؤها. وهذا تفسير سطحي يحمل مخاطر كبيرة. فالتردد في تبنّي التحول التقني، أو التقليل من شأن التحول الجيلي، لن يؤدي إلا إلى فقدان المكانة التنافسية، وتآكل القيمة السوقية تدريجيًا. لا بد من إدراك أن التحوّل ليس اختياريًا، بل هو المسار الوحيد للبقاء في بيئة أعمال تشهد كل يوم ولادة شركات جديدة أكثر مرونة، وأسرع في اتخاذ القرار، وأقرب في فهم السوق.
التحدي هنا ليس فقط في تغيير الأدوات، بل في تغيير العقليات. أن تتحول الشركات من ثقافة الإدارة بالأوامر إلى ثقافة الإدارة بالتحليل والمعلومة. من مركزية القرار إلى التمكين اللامركزي. من إنتاج الكتل الكبيرة إلى تخصيص التجربة الفردية. من التسويق الواسع إلى التواصل الحقيقي. هذه ليست مجرد ممارسات جديدة، بل فلسفة تشغيل كاملة يجب أن تبدأ من رأس الهرم وتخترق جميع المستويات.
في النهاية، الذكاء الاصطناعي لن يتباطأ، وجيل Z لن ينتظر. الشركات التي تفهم وتتحرك، ستبني مستقبلًا متينًا في سوق يتحول بسرعة. أما الشركات التي تتجاهل أو تتردد، فمصيرها أن يتم استبدالها بمن هم أكثر جرأة، أكثر فهمًا، وأكثر توافقًا مع هذه الثنائية الجديدة التي تقلب موازين البيزنس: الذكاء الاصطناعي… وجيل Z.