مقالات مقال رأي بقلم: د. محمد راشد

د. محمد راشد يكتب : سيكولوجية إدارة الشركات بين هاجس تعظيم الأرباح وفن احتواء الخسائر

في عالم الاقتصاد المعاصر، لم يعد نجاح الشركات يُقاس فقط بمؤشرات مالية جامدة تعكس حجم الأرباح أو مقدار الخسائر، بل أصبح مرهونًا بقدرتها على فهم البعد السيكولوجي في إدارة أعمالها.

فالإدارة الحديثة لم تعد مجرد عملية تتعلق باتخاذ قرارات محاسبية أو تشغيلية، وإنما هي علم وفن يقومان على إدراك عميق لنفسية السوق، وسلوك المستهلك، وديناميكيات العاملين داخل المؤسسة. إن ما يُعرف بـ”سيكولوجية الإدارة” أصبح اليوم أداة حاسمة تفرق بين مؤسسة قادرة على الاستمرار والنمو في بيئات متقلبة مليئة بالمخاطر، وبين أخرى تنهار أمام أول أزمة مالية أو تنظيمية.

إن الربح في حقيقته ليس مجرد رقم يظهر في ميزانية نهاية العام، بل هو انعكاس مباشر لقرارات إدارية تتأثر بالسيكولوجيا التنظيمية وبمدى قدرة القادة على قراءة المشهد النفسي للعاملين والعملاء على حد سواء. فالشركات الناجحة هي التي تفهم أن زيادة الربح تبدأ من تحليل سلوك المستهلك وتوقع احتياجاته الخفية، وفهم الدوافع التي تحرك الموظفين وتدفعهم للإنتاجية، ومن القدرة على قراءة إيقاع السوق بما يحمله من إشارات نفسية واقتصادية متشابكة. وحين تترجم الإدارة هذه المدخلات إلى استراتيجيات تسويق وإنتاج وتوزيع مدروسة، يتحول الربح من مجرد معادلة حسابية إلى نتيجة طبيعية لفهم عميق للسلوك الإنساني.

أما الخسائر، فهي ليست مجرد عجز مالي أو انكماش في الإيرادات، وإنما تجربة نفسية واختبار حقيقي لقدرة الإدارة على التعامل مع الأزمات. الشركات الرشيدة تدرك أن الخسائر لا تُدار بالإنكار أو بالتبرير، وإنما بتحويلها إلى دروس تنظيمية، وبقراءة ما وراء الأرقام من مؤشرات إنذار مبكر يمكن أن تساعد المؤسسة على تعديل مسارها قبل أن تتحول الأزمة إلى انهيار كامل. فالاستجابة العاطفية غير المنضبطة للأزمات قد تكون أخطر من الخسارة نفسها، إذ أن الذعر أو التهور في القرارات قد يضاعف من آثارها، بينما الإدارة الواعية ترى في الخسائر فرصة لإعادة التقييم وإعادة الهيكلة واستكشاف مسارات جديدة للنمو.

وفي قلب هذا المشهد تتجلى معضلة أزلية تواجه الشركات: كيف يمكن تحقيق التوازن بين الطموح الاستثماري والرغبة في المخاطرة من جهة، وبين الحذر المالي والتحوط من جهة أخرى؟ فالإفراط في التفاؤل يقود إلى مغامرات متهورة قد تكون عواقبها وخيمة، بينما الإفراط في الحذر يقتل فرص التوسع ويجعل الشركة أسيرة لنمطية مملة تفقدها القدرة على المنافسة. الإدارة الناجحة هي التي تدرك هذه الجدلية وتتحرك في منطقة “المخاطرة المحسوبة”، حيث لا يكون القرار مجرد قفزة في المجهول ولا تراجعًا مبالغًا فيه، وإنما خطوة محسوبة مبنية على قراءة عقلانية ومعززة بفهم نفسي دقيق.

لقد أصبح التنبؤ بالمستقبل في عالم الشركات عملية مركبة لا تقوم فقط على قراءة البيانات المالية والمؤشرات الاقتصادية، بل باتت تعتمد أيضًا على فهم المؤشرات النفسية التي تحرك الأسواق. فثقة المستثمرين، ومعنويات الموظفين، ومزاج المستهلكين، كلها باتت متغيرات مؤثرة لا تقل أهمية عن الأرقام الرسمية. وهنا يظهر البعد السيكولوجي كعنصر حاسم في صياغة الرؤية المستقبلية، حيث يمتزج التحليل المالي بالتحليل النفسي والتنظيمي لإنتاج رؤية متكاملة تحصّن الشركة من المفاجآت غير المتوقعة.

والحقيقة أن الشركات العظيمة لم تكن تلك التي لم تخسر قط، بل تلك التي امتلكت القدرة على تحويل الخسارة إلى فرصة. هذه القدرة تعكس عقلية إدارية تؤمن بأن كل أزمة تحمل بذور ابتكار، وأن كل خسارة يمكن أن تكون نقطة انطلاق لإعادة البناء بطريقة أقوى وأكثر استدامة. فالإدارة الناجحة لا تنشغل فقط بتقليص حجم الخسائر أو تعظيم حجم الأرباح، بل تسعى إلى خلق عقلية تنظيمية ترى في كل ربح إنجازًا يستحق البناء عليه، وفي كل خسارة درسًا يضيء الطريق نحو مسار أفضل.

إن سيكولوجية إدارة الشركات هي في جوهرها مزيج من العلم والفن؛ علم لأنها تستند إلى دراسة منظمة للسلوكيات والدوافع والأنماط النفسية، وفن لأنها تحتاج إلى بصيرة قيادية قادرة على تحويل هذا الفهم إلى قرارات واستراتيجيات.

كما اننا لا بد أن نؤكد أن سيكولوجية إدارة الشركات ليست مجرد نظريات جامدة أو قواعد إدارية تقليدية، بل هي علم وفن يتقاطع فيه الاقتصاد مع علم النفس، وتتشابك فيه استراتيجيات السوق مع ديناميكيات السلوك البشري. فنجاح أي مؤسسة لا يُقاس فقط بما تحققه من أرقام مالية آنية، وإنما بقدرتها على إدارة تقلبات السوق بعقلانية، وتحويل الأزمات إلى فرص، والخسائر إلى منحنى للتعلم وإعادة الانطلاق. وهنا تكمن القيمة الحقيقية للإدارة الواعية: أن تُمسك بزمام العاطفة والعقل معًا، فتوازن بين الطموح الواقعي والانضباط النفسي، وتعيد صياغة علاقتها بالمستقبل على أسس أكثر صلابة واستدامة

وبين السعي وراء تعظيم الأرباح واحتواء الخسائر، تكمن حقيقة الإدارة الفعّالة: أن تدير البشر قبل أن تدير الأرقام، وأن تبني مؤسسة ترى في المستقبل فرصة دائمة للتطور مهما كان حاضرها مليئًا بالتحديات