مقالات مقال رأي بقلم: الدكتور محمد راشد

د. محمد راشد يكتب: الدولرة الخفية في السوق العقاري المصري.. أزمة ثقة أم خلل في فلسفة التسعير؟

خلال السنوات الأخيرة الماضية شهد السوق العقاري المصري موجة جديدة من التسعير البيعي المعتمد على الدولار الأمريكي بدلًا من الجنيه المصري، في محاولة من بعض شركات التطوير العقاري للتحوّط من تقلبات العملة المحلية وضمان استقرار هوامش الأرباح. غير أن هذه الظاهرة، رغم مبرراتها الظاهرية، تعكس إشكالية أعمق تتعلق بخلل في فلسفة التسعير ذاتها، لا بمجرد أزمة في قيمة الجنيه.

المفارقة أن جزءًا كبيرًا من مواد وخامات البناء المستخدمة في السوق المصرية مصنع محليًا، ولا يخضع بالكامل لتقلبات العملة الأجنبية. ومع ذلك، اتجه بعض المطورين إلى تسعير وحداتهم بالدولار أو بما يعادله، وكأن السوق قد فقد ثقته في عملته الوطنية. هذا السلوك لا يُعبر فقط عن هروب من المخاطر قصيرة المدى، بل يهدد بتحويل السوق العقاري إلى بيئة مضاربات مرتبطة بسوق الصرف، بدلًا من أن تظل قائمة على معادلات العرض والطلب الحقيقية.

إن الإصلاح الحقيقي لسياسات التسعير داخل السوق العقاري لا يتم بتجريد الجنيه من وظيفته كأداة تسعير، بل من خلال تعزيز الثقة فيه عبر أدوات استقرار فعّالة تمتص الصدمات بدلًا من تمريرها إلى المستهلك. المطلوب ليس البحث عن عملة بديلة، بل بناء آلية محلية مرنة للتسعير تستند إلى بيانات التكلفة الفعلية وتوازن بين كلفة التطوير والعائد الاستثماري، بعيدًا عن الحلول قصيرة المدى التي تُربك السوق وتُضعف استقراره.

كل خطوة في اتجاه “الدولرة” هي تراجع عن مبدأ السيادة الاقتصادية، وفتح لباب اضطرابات جديدة في الأسعار والمضاربات. فالاعتماد على الدولار كمرجع دائم في تسعير الأصول داخل دولة تسعى لترسيخ اقتصاد وطني متوازن، يعني التخلي التدريجي عن قدرة الدولة على إدارة سوقها العقاري وتوجيهه نحو أهداف التنمية المستدامة.

ولا تقتصر سلبيات هذا الاتجاه على البُعد النقدي فقط، بل تمتد إلى إضعاف القدرة الشرائية للمواطن المصري، وتشويه مفهوم القيمة الحقيقية للأصل العقاري، وإرباك خريطة التمويل العقاري والبنكي، بما يجعل السوق في حالة انفصال تدريجي عن الواقع المحلي. ومع استمرار هذا النهج، قد نشهد تآكلًا تدريجيًا في عدالة السوق وارتفاعًا مصطنعًا في الأسعار، يخلق فجوة بين العرض الفعلي والطلب الحقيقي، ويُقلّص من قاعدة العملاء المحليين لصالح شريحة محدودة من المستثمرين الدولاريين.

أما بالنسبة للتوقعات خلال الفترات القادمة، فمن المرجّح أن تتجه آليات التسعير داخل السوق العقاري المصري إلى مزيد من التخصّص والتنوع، بحيث تعتمد الشركات الأكثر وعيًا على سيناريوهات تسعيرية متوازنة تراعي تغيّرات التكلفة ومعدلات التضخم دون المساس بوظيفة الجنيه. وسيكون الاتجاه الأذكى هو بناء نماذج تسعير تستند إلى مؤشرات محلية مرجعية (Local Indices) تُحدث دوريًا، بدلاً من ربط الأسعار مباشرة بسوق الصرف. هذا النهج لا يحافظ فقط على التنافسية، بل يحمي السوق من التذبذبات ويعزز ثقة المستثمر والمستهلك على السواء.

خلاصة القول

إنّ ما يحتاجه السوق العقاري المصري اليوم ليس إعادة تعريف لعملة التسعير، بل إعادة ضبط لفلسفة التسعير ذاتها. فالقيمة لا تُبنى على الدولار بل على القدرة الإنتاجية الحقيقية، والانضباط المالي، والتوازن بين العرض والطلب. إنّ حماية القطاع لا تأتي من التحوّط المفرط، بل من الثقة المدروسة والسياسات الذكية التي تدير المخاطر بدلًا من نقلها. وإذا أراد السوق أن يظل قاطرة الاقتصاد الوطني، فعليه أن يتبنّى تسعيرًا وطنيًا رشيدًا يعكس قوّة الجنيه لا هشاشته، ويصنع الاستقرار من الداخل لا من الخارج