مقالات مقال رأي بقلم: الكاتب والمفكر مصطفى عبيد

مصطفى عبيد يكتب: أعظم مفكر مصري لا يعرفه الناس

قبل عقد من الزمن سألت أهل الفكر في بلادنا، وهُم قليلين عن أهم مفكر مصري على قيد الحياة. كان الدكتور نصر حامد أبو زيد قد رحل عن دنيانا في يوليو 2010 تاركا فراغا وسكونا كبيران في الفكر المصري والعربي المعاصر، واختار الدكتور حسن حنفي أستاذ الفلسفة الكبير العزلة الطوعية ملاذا آمنا بعد أن شعر بصعوبة التأقلم مع الأجواء الأكاديمية، والأوساط الثقافية.

اتفق العارفون وقتها على اسم لم أكن أعرفه، هو المستشار عبد الجواد ياسين، وهو ما جعلني أشعر بمحدودية ثقافتي، وقلة حيلتي، وتقصيري المعرفي. وبنهم وحماس بحثت عنه وعن كُتبه وأفكاره ورؤاه التي حملت كثيرون ممَّن يفكرون في بلادنا على الإشارة إليه. وبعد لفٍ ولف، وصلت إليه، تواصلت معه بعد أن قرأت كل ما كتب شغفا بخيط ممتد يحفزك كل كتاب على قراءه سابقه، وبمحبة وإعجاب زرته لأستزيد وأستزيد علما وفكرا.

وحكي لي صديقي الدكتور أحمد سالم أستاذ الفلسفة النابه أنه ذهب يوما إليه، وقال له أريد أن أتعلم منك. وقال لي أستاذ فلسفة آخر هو الصديق الدكتور أشرف منصور إن مشروع عبد الجواد ياسين للإصلاح الديني هو أقوى طرح طرحه مفكر عربي  حتى الآن.

عبد الجواد ياسين. مًن يعرفه؟ أدرك أن العامة لا يعرفون الرجل، لأنه لا يطل عبر الفضائيات، ولا تفرد له الصحف صفحاتها، ولا تذكره مواقع التواصل الإجتماعي لأنه مُنشغل بشىء واحد وحيد هو القراءة والكتابة.

تكشف مُحركات البحث بعض مؤلفات المفكر الذي يُصر على العزوف عن الأضواء وعدم الاستغراق في التريند بحثا عن شهرة أو برنامج أو موقع مؤثر مثل ” الدين والتدين”، “السلطة في الإسلام”، ” اللاهوت”، وغيرها.

وبخلاف حكومة دبي التي تستشرف المستقبل، فاختارته منذ سنوات مستشارا لها، فإن غالبية المسئولين في بلادنا، وقيادات وزارة الثقافة، ورؤساء تحرير الصحف والمجلات لا يعرفونه.

بدأ الرجل تكفيريا، متعصبا، متشددا، مناقضا للتعددية، ومُناصرا للإرهاب الديني، ثُم غيّر رأسه وجدد فكره ليُقدم لنا واحد من أعظم  مشاريع مواجهة التطرف الديني الذي زار بلادنا ليُقعدها عن أي تنمية أو إصلاح. ولد عبد الجواد ياسين في مدينة الزرقا بدمياط سنة 1954، درس الحقوق، وتخرج وكيلا للنيابة محققا رغبة والده في أن يكون قاضيا، لكنه كان مُفعما ومسكونا بأفكار سيد قطب التكفيرية، حتى أنه كتب كتابا بداية الثمانينات بعنوان “فقه الجاهلية المعاصرة” حكم فيه بكفر كل مَن يحتكمون لقوانين مدنية. وقتها وخلال خدمته في السلك القضائي أبدى الرجل تعاطفا شديدا مع المتطرفين من أعضاء الجماعات الإسلاموية وكان يفرج عنهم كلما عرضوا كمتهمين عليه. ثم وصل الأمر به إلى قيامه بتقديم استقالته تماما من القضاء تحت حجة أنه لا يُشرفه العمل في النظام الجاهلي، والحكم بقوانين وضعية.

اختفي الرجل سنينا، ترك مصر، وساقر شرقا وغربا بحثا عن المعرفة والفكر، قرأ ودرس وتعمق وشعر أن الدنيا أرحب من سيد قطب، والمودودي، راجع كانط، حلل كتابات دوركايم، تعرف على الفلسفة الغربية، تدارس الفكر التجريبي، وذاكر صعود وأفول الكنيسة الغربية، ثُم أعاد قراءة التاريخ الإسلامي كله ليتعلم ويتفقه.

بعد سنوات طويلة وصل إلى قناعة نهائية مفادها أن حركة الإخوان المسلمين التي بدأت في مصر نهاية العشرينيات، هي المسئولة أمام الله ثم أمام الناس وأمام التاريخ مسئولية كاملة عن تشوه الدين وتشويه صورته،لأنها قسمت الآمة إلى قسمين، والإسلام إسلامين، واستدعت أفكار الأصولية الأولى الموجودة في النظام التاريخي لتطرحها باعتبارها وحدها دين الله، ومراده من العباد.

وذهب الرجل  في كتابه “السلطة في الإسلام ” إلى أن الحركات والجماعات الإسلامية خربت العقل المسلم عندما اعتبرت السياسة متعلقة بالدين أو جزء لا يتجزأ من الدين، فيما غيب التاريخ الرسمي اللمحات العقلية المتمثلة في تيار المعتزلة وابن حزم وغيره.

وفي تصوره، فإن السلطة لم تتشكل من خلال النص، وإنما تشكلت من خلال التاريخ، ليس ذلك فحسب، بل إنّ تاريخ السلطة قد أدّى دوراً  خطيرا في تشكيل النص.

وهو يرى أن تيارات الإسلام السياسي ستزول لا محالة، وأن عالم الغد لن ترفع لها راية. وكان مما ذكره لي في ذروة سطوع أسطورة داعش أن هذه الحركة تحديدا تمثل الفصل الأخير في تمدد الإسلام السياسي ، لذا فإنها الأكثر توحشا.

قال لي عبد الجواد ياسين إن كسر عُنق الأصولية يتطلب في نظره دعما كبيرا وواسعا للتدين الشعبي الذي يقف على الضفة المقابلة للمدونة الرسمية للتدين، وهو تدين العوام القائم على الفطرة.

بشرني الرجل بالخير وزوال الغمة وموت الأصولية المسلحة تحت وطأة تطور البشر. بدا الرجل عالما، زاهدا، طالبا بالإصلاح، وحريصا على الإسلام.

تذكرته على خلفية مناقشات جدلية  تزخر بها مواقع التواصل الاجتماعي حول مستقبل الإصلاح في عالمنا العربي، وفكرت لو كنت أمتلك القرار في بلادي، لأدرجت كتابيه “السلطة في الإسلام” و”الدين والتدين” ضمن مناهج التعليم الإعدادي في مصر، فهي بداية لصحوة فكرية تُشجع الإصلاح المؤجل.

والله أعلم.

مصطفى عبيد

[email protected]