د. أحمد أبو علي يكتب: لماذا تفشل تجربة المطور العقاري الحكومي في مصر؟

عندما تتحول الدولة إلى مطور عقاري… ماذا يحدث؟
حين قررت الدولة المصرية أن تدخل سوق التطوير العقاري كلاعب رئيسي، بدا الأمر في ظاهره تطورًا طبيعيًا في ظل توسع عمراني غير مسبوق، وخطة قومية تهدف لإعادة تشكيل الخريطة السكانية والاقتصادية.
لكن مع مرور الوقت، بدأت علامات الاستفهام تتزايد: لماذا لا تحقق مشروعات المطور الحكومي النجاح المرجو؟
ولماذا تبدو هذه المشروعات – رغم إمكانياتها – أقل جاذبية مقارنة بمثيلاتها في القطاع الخاص؟
هل المشكلة في آليات التنفيذ؟ في الرؤية التسويقية؟ في تضارب الأدوار؟
في هذا المقال، نحاول تفكيك الأسباب الحقيقية التي تجعل تجربة “المطور الحكومي” في مصر تجربة محدودة النجاح، بل وتثير أحيانًا القلق على توازن السوق العقاري نفسه.
منطق الدولة ليس هو منطق السوق
تعمل الدولة بمنطق “الخطة والتنفيذ”، بينما يعمل السوق بمنطق “الفرصة والعائد”. الدولة تضع أولوياتها بناءً على أهداف سياسية، اجتماعية، أو عمرانية، وليس بالضرورة على أساس الجدوى التجارية أو الطلب الحقيقي.
بينما يدير المطور الخاص مشروعه بناءً على دراسات سوق، ومرونة في التسعير، واستهداف واضح للشريحة الأنسب، تتحرك أجهزة الدولة بعقلية الجهاز التنفيذي، حيث الإجراءات أطول، والقرارات أقل مرونة، والمسؤوليات موزعة على جهات متعددة.
هذا التباين في المنهجيات يجعل تجربة المطور الحكومي – حتى وإن توفرت لها الأرض والتمويل – تفتقر إلى الديناميكية المطلوبة لجذب السوق والتفاعل معه.
ثانيًا: غياب الرؤية التسويقية والابتكار العقاري
في مشروعات المطور الحكومي، غالبًا ما تكون النتيجة النهائية نسخة مكررة من مشروعات سابقة: نفس النموذج، نفس التشطيب، نفس التجربة. لا توجد بصمة تصميمية، ولا رؤية معمارية متميزة، ولا حتى لغة تسويقية تربط المشروع بأسلوب حياة محدد.
المطور الخاص يخلق منتجًا عقاريًا يحمل قصة – branding – تجربة متكاملة، بينما تعتمد الدولة على “الاسم الرسمي” فقط، في مشروعات لا تحمل عنوانًا جاذبًا أو هوية مرئية حقيقية.
في عالم يتنافس فيه المطورون على خلق تجارب سكنية متكاملة وابتكارات عمرانية متطورة، تبدو منتجات الدولة باهتة وبعيدة عن توقعات الشريحة المستهدفة.
أسعار لا تعبّر عن القوة الشرائية الفعلية
من المفارقات الكبرى أن الدولة، التي يفترض أنها تستهدف العدالة الاجتماعية وتوفير السكن الملائم، باتت تقدم مشروعات بأسعار تخرج عن متناول الطبقة المتوسطة.
في كثير من الحالات، تجاوزت أسعار المتر في مشروعات الدولة نظيرتها في بعض مشروعات القطاع الخاص، دون تقديم قيمة مضافة حقيقية.
وهو ما يطرح تساؤلًا حرجًا: هل تحول المطور الحكومي إلى منافس ربحي؟ وهل فقدت الدولة البوصلة بين دورها الاجتماعي ودورها التنفيذي؟
المعادلة اختلت حين تم طرح وحدات سكنية على أنها “تنموية” بينما هي في الواقع خارج نطاق القدرة الشرائية لمن يُفترض أنهم المستهدفون.
الدولة بين التشريع والتنفيذ
من أخطر إشكاليات تجربة المطور الحكومي هو تضارب الأدوار.
الدولة تُشرّع، وتمنح الأراضي، وتصدر التراخيص… ثم تدخل في السوق كلاعب رئيسي.
هذا التداخل يُضعف ثقة المستثمرين، ويشوّش الإشارات السوقية. كيف لمطور خاص أن ينافس “خصمًا وحكمًا” في آن واحد؟
حتى مع حسن النوايا، يظل هذا التداخل يخلق بيئة غير متكافئة، ويمنح المطور الحكومي امتيازات لا تتوفر لغيره، مما يفتح الباب للاتهامات، ويزيد من حدة عدم الاستقرار في السوق.
من مطور إلى مجرد بائع للوحدات
الحقيقة التي لا تُقال كثيرًا أن الدولة لا تمارس “تطويرًا عقاريًا” بالمعنى الاحترافي للكلمة.
هي لا تؤسس لرؤية عمرانية طويلة الأمد، ولا تهتم بإدارة المجتمعات بعد التسليم، ولا تبني هوية متكاملة للمشروع. في الغالب، هي تبني وحدات، ثم تطرحها للبيع.
بينما المطور الحقيقي يبدأ برؤية – ثم تصميم – ثم تمويل – ثم تنفيذ – ثم إدارة ما بعد البيع، فإن الدولة تتوقف عند مرحلة “البيع”، وتترك المجتمعات ما الحل؟ إعادة تموضع الدولة ضرورة لا خيار
لا يعني هذا المقال الدعوة إلى انسحاب الدولة من الساحة العقارية، ولكن إعادة تعريف دورها.
الدولة يجب أن تتحول من منافس مباشر، إلى مُحفّز ومُنظم للسوق، تُمكّن القطاع الخاص الجاد، وتضبط الإيقاع من خلال التشريع والرقابة، لا من خلال المزاحمة.
السوق العقاري المصري بحاجة إلى توازن حقيقي:
• دولة تضع السياسات وتضمن الشفافية،
• وقطاع خاص يبتكر، يستثمر، ويخلق تجارب عمرانية مستدامة.
بدون هذه المراجعة الجادة، ستظل تجربة المطور العقاري الحكومي رهينة الفشل التراكمي، مهما توفرت لها الإمكانيات
كاتب المقال: أحمد أبو علي – الباحث والمحلل الاقتصادي