مقالات مقال رأي بقلم: د. محمد راشد

د. محمد راشد يكتب : من مشروع قومي إلى نموذج حضاري.. كيف أصبحت التنمية العمرانية جزءًا من الهوية المصرية الجديدة؟

من الطموح الهندسي إلى التحول الحضاري.. قبل سنوات قليلة، كانت كلمة “مشروع قومي” في الوعي المصري مرتبطة غالبًا بالبنية التحتية أو المشروعات الإنتاجية الكبرى. لكن ما حدث خلال العقد الأخير في ملف التنمية العمرانية تحديدًا، لم يكن مجرد تنفيذٍ لمشروعات عمرانية ضخمة، بل ولادة نموذج حضاري جديد أعاد تعريف علاقة المصري بأرضه، ومكانه، وزمنه، بل وحتى بذاته. التحول لم يكن في حجم المدن ولا عدد الكيلومترات المُعبّدة فقط، بل في الفلسفة التي تقود هذه النهضة: فلسفة ترى أن العمران ليس ديكورًا أو توسعًا شكليًا، بل هو جوهر عملية بناء الدولة، وإعادة إنتاج الهوية.

 الجمهورية الجديدة تُبنى بالمتر والمعنى

في ظل رؤية الدولة للجمهورية الجديدة، لم يكن الهدف فقط هو بناء عاصمة جديدة، أو نقل الوزارات، أو تقليل الزحام، بل إطلاق سلسلة متكاملة من المدن الذكية والتنموية التي تُعيد توزيع السكان، وتخلق اقتصادًا مرنًا، وتُجسد طموح الدولة في أن تكون صاحبة مشروع حضاري مكتمل الأركان. هذه المدن – من العلمين والمنصورة الجديدتين إلى شرق بورسعيد وأسوان الجديدة – ليست امتدادًا عمرانيًا للمركز، بل أقطاب تنموية تملك وظائفها واستقلالها، وتُعيد رسم الخريطة السياسية والاجتماعية والثقافية للجمهورية.

المدن بوصفها أدوات هوية

لم تكن القاهرة مجرد عاصمة، بل هوية. ولم تكن الإسكندرية مجرد ميناء، بل روحٌ متوسطية. واليوم، حين تبني الدولة مدينة مثل “العلمين الجديدة”، فهي لا تبني مجرد أبراج وممشى سياحي، بل تُجسّد مصر الحديثة ذات الأفق العالمي، والهوية الساحلية المزدهرة، والربط بين الجغرافيا والتاريخ. هذه المدن تمثل “هوية مصغّرة للدولة”، بمعمارها، وناسها، وخدماتها، وطموحها. وفي هذا السياق، يتحول العمران من كونه مشروع بناء إلى مشروع “إعادة تعريف”. إعادة تعريف للمكان، للوظيفة، وللانتماء.

 العمران لا يُجمّل.. بل يُعبّر

أحد الأخطاء الشائعة في فهم التطوير العمراني هو اختزاله في شكله الجمالي أو حجمه الهندسي. لكن التجربة المصرية تُثبت اليوم أن العمران الحقيقي هو ذاك الذي يُعبر عن رؤية الدولة لنفسها، ويُترجم توجهاتها الاستراتيجية إلى مساحات ملموسة يعيش فيها المواطن. مدينة مثل العاصمة الإدارية لا تُبنى لتُظهر رفاهية عمرانية، بل لتُجسد مفاهيم مثل: التخطيط، النظام، التحوّل الرقمي، إدارة الموارد. والنتيجة أن العمران لم يعد “قشرة خارجية” للدولة، بل صار مرآتها العميقة التي تعكس كيف تفكر، وكيف ترى المستقبل، وكيف تُعيد إنتاج ذاتها.

 العدالة المكانية.. قيمة حضارية لا غائبة

حين تتوزع المدن الجديدة على امتداد الجغرافيا المصرية – من الشمال إلى الجنوب، ومن الشرق إلى الغرب – فإن ما يحدث ليس فقط توسعًا عمرانيًا، بل توزيعًا للعدالة. لم تعد القاهرة هي مركز كل شيء، ولم يعد الساحل الشمالي حكرًا على فئة دون غيرها، ولم يعد الصعيد مهمشًا. الدولة، من خلال أدواتها العمرانية، تُعيد رسم مفهوم “الحق في المدينة”، وتُعيد الاعتبار لمناطق ظلت خارج معادلة التنمية لعقود. وهذا بدوره لا يصنع فقط توازنًا اقتصاديًا، بل يُعزز من مفهوم المواطنة المتكافئة، وهو ركن أصيل في بناء الهوية الوطنية.

مصر التي تُبنى.. ليست كما كانت

ما نراه اليوم من نهضة عمرانية مصرية لا يجب أن يُقاس فقط بالأبراج والطرق والأنفاق، بل يجب أن يُقرأ كتحوّل في طريقة تفكير الدولة تجاه المكان والإنسان. فالعمران، كما نفهمه اليوم، لم يعد ترفًا، ولا مشروعًا جانبيًا، بل لغة الدولة الأساسية في التعبير عن ذاتها، وخطتها، وأحلامها. هذه اللغة الجديدة لا تقول فقط “نبني”، بل تقول: نُعيد التوازن، نُعيد الهوية، نُعيد صياغة المستقبل.

الهوية تُكتب بالإسمنت والضوء

نعم، الهوية تُكتب بالكلمات، وتُرسم في التاريخ، وتُعاش في الثقافة. لكنها اليوم تُكتب أيضًا بالإسمنت، وبالضوء، وبالميدان الواسع، وبالمدينة الذكية، وبالطريق الذي يصل قرية منسية بعالم جديد من الفرص.
مصر لا تُجمّل صورتها بعمرانها الجديد، بل تُعيد بناء عمقها الحضاري، وترسم خريطة جديدة لنفسها في زمن لا يرحم الدول التي تعجز عن إعادة تعريف هويتها. وما يحدث الآن ليس فقط مشروع دولة، بل انبعاث حضاري يُعيد لمصر مكانتها في عالم متغير