مقالات مقال رأي بقلم: د. محمد راشد

د. محمد راشد يكتب : كيف يواجه التطوير العقاري تحديات تغير المناخ في مصر؟

لم يعد تغير المناخ مجرد تحذير نظري يرد في تقارير المنظمات الدولية، بل أصبح واقعًا حيًّا يفرض نفسه على الجغرافيا والسياسات والعمران في مختلف أنحاء العالم.

وتواجه مصر، كدولة تمتد بين البحر والصحراء والنهر، تحديات مركبة تتعلق بارتفاع درجات الحرارة، وزيادة فترات الجفاف، وتهديد منسوب مياه البحر لمناطق الدلتا، ناهيك عن الضغوط الواقعة على مصادر المياه، والتوسع العمراني العشوائي الذي يفاقم من هشاشة البيئة.

وفي ظل هذا الواقع المتغير، لم تعد التنمية العمرانية مجرد توسع في المساحة أو تلبية لاحتياجات سكنية، بل أصبحت ضرورة من ضرورات “الصمود الحضاري” في وجه المناخ، وهو ما يُعرف اليوم عالميًا بمفهوم “العمران المقاوم”.

من التوسع الأفقي إلى الصلابة المناخية

تدرك الدولة المصرية أن الاستدامة لم تعد خيارًا جماليًا، بل ضرورة وجودية، خاصة في ظل الكثافة السكانية العالية، وندرة الموارد، وتقلبات المناخ المتسارعة. لذلك، تتجه فلسفة العمران في الجمهورية الجديدة إلى تبنّي مفاهيم الصلابة المناخية، أي بناء مجتمعات قادرة على التكيف مع التغيرات البيئية، واستيعاب آثارها دون انهيار. ويتحقق ذلك من خلال عدة مستويات: استخدام مواد بناء منخفضة الانبعاثات، والتوسع في حلول الطاقة المتجددة، وتخطيط المدن بطريقة تقلل من الاعتماد على السيارات، وتدمج المساحات الخضراء والبحيرات الصناعية التي تخفف درجات الحرارة، وتساعد في الحفاظ على التوازن البيئي داخل النسيج العمراني.

مدن الجيل الرابع نموذج التطوير المقاوم

من أبرز ملامح العمران المقاوم في مصر اليوم هي مدن الجيل الرابع، التي تم تصميمها بمعايير ذكية وبيئية دقيقة، مثل العاصمة الإدارية الجديدة، والعلمين الجديدة، والمنصورة الجديدة، وشرق بورسعيد. فهذه المدن لا تعتمد فقط على التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، بل تنطلق من فهم عميق لطبيعة المناخ المحلي، وقدرتها على إدارة الموارد بذكاء، وتقليل البصمة الكربونية، وتعزيز مفهوم الاستهلاك الرشيد للطاقة والمياه. وفي العاصمة الإدارية مثلًا، تم تصميم المحاور والميادين والمباني بطريقة تسمح بتدوير الهواء، وتحسين الإضاءة الطبيعية، والتقليل من الحمل الحراري على الأبنية، وكلها عناصر تحوّل المدينة من كيان مستهلك للطبيعة إلى كيان متوازن معها.

الهروب من الخطر أم التحول الذكي للمناطق المعرضة للتغير المناخي؟

تواجه مناطق مثل دلتا النيل مخاطر كبيرة بفعل ارتفاع منسوب سطح البحر، وتغير أنماط الأمطار، وزحف المياه المالحة. لكن الدولة لم تتعامل مع هذه التهديدات بمنطق الإخلاء أو الانسحاب، بل بمنهج إعادة التنظيم والتحصين، من خلال مشروعات مثل رفع كفاءة شبكات الصرف، وتحسين السدود، والتوسع في الحواجز الساحلية، بالتوازي مع خلق بدائل عمرانية في مناطق داخلية آمنة مناخيًا مثل محور بني سويف – المنيا – الفرافرة، وهو ما يخلق شبكة تنموية بديلة تُخفف الضغط عن مناطق الخطر، دون أن تتخلى الدولة عن أراضيها الحيوية.

العقار والمناخ.. شراكة الضرورة لا رفاهية الاختيار

ربما لم يكن من المألوف في الماضي الحديث عن العلاقة بين التطوير العقاري وتغير المناخ، لكن اليوم أصبح من المستحيل الفصل بين الاثنين. فكل متر مربع يتم تطويره هو قرار بيئي، وكل وحدة سكنية تُنشأ دون كفاءة مناخية هي عبء مستقبلي على البيئة والدولة والمواطن. ولهذا، فإن الاتجاه نحو البناء الأخضر، والحوكمة البيئية في الاستثمار العقاري، لم تعد مجرد “امتيازات تسويقية”، بل أصبحت جزءًا من المنظومة الدفاعية البيئية للدولة، وشرطًا من شروط بقاء المدن تحت ضغط المناخ.

نحو مدن تتنفس وتتكيف وتقاوم

التحول نحو “عمران مقاوم” لا يعني فقط تحسين التصميمات، بل إعادة تعريف وظيفة المدينة نفسها. المدينة ليست فقط مكانًا للسكن والعمل، بل يجب أن تكون كائنًا حيًا قادرًا على التكيف، والتنفس، وتحمل الصدمات، والتفاعل مع الطبيعة. المدن التي تُخطط بهذه الطريقة تصبح أكثر مرونة، وأكثر قدرة على الصمود في مواجهة المتغيرات البيئية، وتُمكّن الدولة من حماية ملايين المواطنين من آثار الكوارث المحتملة.

 

مناخ جديد يتطلب عقلًا عمرانيًا جديدًا

في النهاية، فإن مستقبل العمران في مصر مرهون بقدرتنا على التحول من ثقافة التوسع إلى ثقافة المقاومة، ومن التركيز على الكم إلى التأسيس للجودة والمرونة. ومع التغير المناخي الذي بات واقعًا لا يُمكن تجاهله، فإن “العمران المقاوم” لم يعد ترفًا فكريًا، بل خيارًا استراتيجيًا يحدد قدرة مصر على حماية إنسانها وأرضها واقتصادها. ومن هنا، فإن مسؤولية المطورين العقاريين والمهندسين والمخططين أصبحت مضاعفة، لأن ما يبنونه اليوم ليس مجرد عقارات، بل مستقبل دولة بأكملها في مواجهة مناخ لا يعرف الرحمة